فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال القشيري أيضًا: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع وأنكروا وجوده فقولهم لو يشاء الله من باب الاستهزاء بالمسلمين.
وجوز أن يكون مبنيًا على اعتقاد المخاطبين ويفهم من هذا أن الزنديق من ينكر الصانع، وقد حقق الأمر فيه على الوجه الأكمل ابن الكمال في رسالة مستقلة فارجع إليها إن أردت ذلك.
وعن الحسن وأبي خالد أن الآية نزلت في اليهود أمروا بالإنفاق على الفقراء فقالوا ذلك.
وظاهر ما تقدم يقتضي أنها في كفار مكة أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بنفي الإطعام الذي لم يزالوا يفتخرون به دلالة على نفس غيره بالطريق الأولى ولذا لم يقل أنفق.
وقيل لم يقل ذلك لأن الإطعام هو المراد من الإنفاق أو لأن {نُطْعِمُ} بمعنى نعطي وليس بذاك، و{أَطْعَمَهُ} جواب {لَوْ} وورود الموجب جوابًا بغير لام فصيح ومه {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم} [الأعراف: 100] {لو نشاء جعلناه اجاجا} [الواقعة: 70] نعم الأكثر محيئه باللام.
والظاهر أن قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال مُّبِينٍ} من تتمة قول الذين كفروا للذين آمنوا أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر حيث طلبتم منا ما يخالف مشيئة الله عز وجل، ولعمري أن الإناء ينضح بما فيه فإن جوابهم يدل على غاية ضلالهم وفرط جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم سبحانه له، ويجوز أن يكون جوابًا من جهته تعالى زجر به الكفرة وجهلهم به أو حكاية لجواب المؤمنين لهم فيكون على الوجهين استئنافًا بيانيًا جوابًا لما عسى أن يقال ما قال الله تعالى أو ما قال المؤمنون في جوابهم؟
{وَيَقُولُونَ} عطف على الشرطية السابقة مفيد لإنكارهم البعث الذي هو مبدأ كل قبيح والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يعدهم بذلك، ومما يستحضر في أذهانهم ما تقدم من الأوامر فلذا أتوا بالإشارة إلى القريب في قولهم {متى هذا الوعد} يعنون وعد البعص، وجوز أن يكون ذلك من باب الاستهزاء وأرادوا متى يكون ذلك ويتحقق في الخارج {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تقولون وتعدون فاخبرونا بذلك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما أنهم أيضًا كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه والآمرة بالإيمان به وكأنه لم يعتبر كونه شرًا لهم ولذا عبروا بالوعد دون الوعيد، وقيل: إن ذاك لأنهم زعموا إن لهم الحسنى عند الله تعالى إن تحقق البعث بناء على أن الآية في غير المعطلة.
{مَا يَنظُرُونَ} جواب من جهته تعالى أي ما ينتظرون {إِلاَّ صَيْحَةً} عظيمة {واحدة} وهي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض.
وعبر بالانتظار نظرًا إلى ظاهر قوللهم {متى هذا الوعد} [يس: 48] أو لأن الصيحة لما كانت لابد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها أو لأن الصيحة لما كانت لابد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها {تَأُخُذُهُمْ} تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون {وَهُمْ يَخِصّمُونَ} أي يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله تعالى: {فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها حسبما يريدون ولا يزعمون أنها لا تأتي، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: «لينفخن في الصور والناس في طرفهم وأسواقهم ومجالسهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفح في الصور فيصعق به» وهي التي قال الله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} الخ، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتومن الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقي منه ولتقو من الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» وأصل يخصمون يختتصمون وبه قرأ أبي فسكنت التاء وأدغمت في الصاد بعد قلبها صادا ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الكسر لاتباع حركة الصاد الثانية والساكن لا يضر حاجزًا.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن قسطنين بادغام التاء في الصاد ونقل حركتها وهي الفتحة إلى الخاء، وأبو عمرو أيضًا وقالوا بخلف باختلاس حركة الخاء وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا جادله، والمفعول عليها محذوف أي يخصم بعضهم بعضًا، وقيل يخصمون مجادلتهم عن أنفسهم، وبعضهم يكسر ياء المضارعة إتباعًا لكسرة الخاء وشد الصاد، وكسر ياء المضارعة لغة حكاها سيبويه عن الخليل في مواضع، وعن نافع أنه قرى بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الصاد المكسورة، وفيها الجمع بين الساكنين على حده المعروف، وكأنه يجوز الجمع بينهما إذا كان الثاني مدغمًا كان الأول حرف مد أيضًا أم لا، وهذا ما اخترناه في نقل القراءات تبعًا لبعض الأجلة والرواة في ذلك مختلفون.
{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} في شيء من أمورهم إذا كانوا فيما بين أهليهم، ونصب {تَوْصِيَةً} على أنه مفعول به ليستطيعون، وجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا لمقدر {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} إذا كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى الله عز وجل لا إلى غيره سبحانه.
وقرأ ابن محيصن {يَرْجِعُونَ} بالبناء للمفعول والضمائر للقائلين {متى هذا الوعد} [يسن: 48] لا من حيث أعيانهم أعني أهل مكة الذين كانوا وقت النزول بل لمنكري البعث مطلقًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)}.
تخلص الكلام من عدم انتفاعهم بالآيات الدالة على وحدانية الله إلى عدم انتفاعهم بالأقوال المبلَّغة إليهم في القرآن من الموعظة، والتذكير بما حلّ بالأمم المكذبة أن يصيبهم مثلُ ما أصابهم، وبعدم انتفاعهم بتذكير القرآن إياهم بالأدلة على وحدانية الله، وعلى البعث.
وبناء فعل {قِيلَ} للمجهول لظهور أن القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله تعالى، أي قيل لهم في القرآن.
وما بين الأيدي يراد منه المستقبل، وما هو خلف يراد منه الماضي، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {مصدقًا لما بين يديَّ من التوراة} [آل عمران: 50]، أي ما تقدمني.
وذلك أن أصل هذين التركيبين تمثيلان فتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف إليه بسائر إلى مكان فالذي بين يديه هو ما سيرد هو عليه، والذي من ورائه هو ما خلَّفه خلْفه في سيره، وتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف بسائر، فهو إذا كان بين يدي المضاف إليه فقد سبقه في السير فهو سَابق له وإذا كان خلف المضاف إليه فقد تأخر عنه فهو وارد بعده.
وقد فسرت هذه الآية بالوجهين فقيل: ما بين أيديكم من أمر الآخرة وما خلفكم من أحوال الأمم في الدنيا، وهو عن مجاهد وابن جبير عن ابن عباس.
وقيل: ما بين أيديكم أحوال الأمم في الدنيا وما خلفكم من أحوال الآخرة وهو عن قتادة وسفيان.
ومتى حمل أحد الموصولَين على ما سبق من أحوال الأمم وجب تقدير مضافين قبل {ما} الموصولة هما المفعول، أي اتقوا مثلَ أحوال ما بين أيديكم، أو مثل أحوال ما خلفكم، ولا يقدر مضافان في مقابله لأن مَا صْدَق {ما} الموصولة فيه حينئذٍ هو عذاب الآخرة فهو مفعول {اتَّقُوا}.
وتقدم قوله تعالى: {فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها} في سورة البقرة (66).
ولعلّ للرجاء، أي ترجى لكم رحمة الله، لأنهم إذا اتقوا حذروا ما يوقع في المتقى فارتكبوا واجتنبوا وبادروا بالتوبة فيما فرط فرضي ربهم عنهم فرحِمهم بالثواب وجنّبهم العقاب.
والكلام في لعل الواردة في كلام الله تعالى تقدم عند قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} في سورة البقرة (21).
وجواب {إذا} محذوف دل عليه قوله في الجملة المعطوفة {إلاَّ كَانُوا عنها مُعْرِضِينَ}.
فالتقدير هنا: كانوا معرضين.
وجملة {ما تأتِيهم من ءايَةٍ من ءاياتت ربِهم إلاَّ كانوا عَنها مُعْرِضين} واقعة موقع التذييل لما قبلها، ففيها تعميم أحوالهم وأحواللِ ما يُبلَّغونه من القرآن؛ فكأنه قيل: وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا، والإِعراض دأبهم في كل ما يقال لهم.
والآيات: آيات القرآن التي تنزل فيقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فأطلق على بلوغها إليهم فعل الإِتيان ووصفها بأنها من آيات ربهم للتنويه بالآيات والتشنيع عليهم بالإِعراض عن كلام ربهم كفرًا بنعمة خلقه إياهم.
و{ما} نافية، والاستثناء من أحوال محذوفة، أي ما تأتيهم آية في حال من أحوالهم إلا كانوا عنها معرضين.
وجملة {كانُوا عنها مُعْرِضِينَ} في موضع الحال.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}.
كانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحّون على فقراء المسلمين فيمنعونهم البذل تشفّيًا منهم فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإِنفاق أو سألهم فقراء المسلمين من فضول أموالهم أو أن يعطوهم ما كانوا يجعلونه لله من أموالهم الذي حكاه الله عنهم بقوله: {وجعلوا للَّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا} [الأنعام: 136] فلعل من أسلم من الفقراء سألوا المشركين ما اعتادوا يعطونهم قَبْل إسلامهم فيقولون أعطوا مما رزقكم الله وقد سمعوا منهم كلمات إسلامية لم يكونوا يسمعونها من قبل، وربما كانوا يحاجونهم بأن الله هو الرزاق ولا يقع في الكون كائن إلا بإرادته فجعل المشركون يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فيقولون: لا نُطعم من لو يشاء الله لأطعمه، وإذا كان هذا رزقناه الله فلماذا لم يرزقكم، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا.
وقد يقول بعضهم ذلك جهلًا فإنهم كانوا يجهلون وضع صفات الله في مواضعها كما حكى الله عنهم: {وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم} [الزخرف: 20].
وإظهار الموصول من قوله: {قَالَ الذيِنَ كَفَرُوا} في مقام الإِضمار مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: قالوا أنطعم الخ لنكتة الإِيماء إلى أن صدور هذا القول منهم إنما هو لأجل كفرهم ولأجل إيمان الذين سئل الإِنفاق عليهم.
روى ابنُ عطية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المشركين بالإِنفاق على المساكين في شدة أصابت الناس فشحّ فيها الأغنياء على المساكين ومنعوهم ما كانوا يعطونهم.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} يجوز أن تكون لتعدية فعل القول إلى المخاطب به أي خاطبوا المؤمنين بقولهم: {أنُطعِمُ مَن لو يَشاءُ الله أطعَمَهُ} ويجوز أن تكون اللام للعلة، أي قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا، أي قالوا في شأن الذين آمنوا كقوله تعالى: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا} [آل عمران: 168] وقوله: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11] أي قالوا ذلك تعلة لعدم الإِنفاق على فقراء المؤمنين.
والاستفهام في {أنُطْعِمُ} إنكاري، أي لا نطعم من لو شاء الله لأطعمهم بحسب اعتقادكم أن الله هو المطعم.
والتعبير في جوابهم بالإِطعام مع أن المطلوب هو الإِنفاق: إمّا لمجرد التفنن تجنبًا لإِعادة اللفظ فإن الإِنفاق يراد منه الإِطعام، وإمّا لأنهم سئلوا الإِنفاق وهو أعمّ من الإِطعام لأنه يشمل الإِكساء والإِسكان فأجابوا بإمساك الطعام وهو أيسر أنواع الإِنفاق، ولأنهم كانوا يعيّرون من يشحّ بإطعام الطعام وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم ما هو فوقه أحرى.
وجملة {إنْ أنتُمْ إلاَّ في ضَلالٍ مُبِينٍ} من قول المشركين يخاطبون المؤمنين، أي ما أنتم في قولكم: {أنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} وما في معناه من اعتقاد أن الله متصرف في أحوالنا إلا متمكن منكم الضلال الواضح.
وجعلوه ضلالًا لجهلهم بصفات الله، وجعلوه مبينًا لأنهم يحكمون الظواهر من أسباب اكتساب المال وعدمه.
والجملة تعليل للإِنكار المستفاد من الاستفهام.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)}.
ذكر عقب استهزائهم بالمؤمنين لمّا منعوهم الإِنفاق بعلة أن الله لو شاء لأطعمهم استهزاء آخر بالمؤمنين في تهديدهم المشركين بعذاب يحلّ بهم فكانوا يسألونهم هذا الوعد استهزاء بهم بقرينة قوله: {إن كنتم صادِقِينَ} فالاستفهام مستعمل كناية عن التهكم والتكذيب.
وأطلق الوعد على الإِنذار والتهديد بالشر لأن الوعد أعمّ ويتعين للخير والشر بالقرينة.
واسم الإِشارة للوعد مستعمل في الاستخفاف بوعد العذاب كما في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموتُ لا يُلف حاجة ** لنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها

وإذا قد كان استهزاؤهم هذا يسوء المسلمين أعلم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الوعد واقع لا محالة وأنهم ما ينتظرون إلا صيحة تأخذهم فلا يُفلتون من أخذتها.
وفعل {يَنظُرُونَ} مشتق من النَّظِرة وهو الترقب، وتقدم في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة في سورة} [الأنعام: 158].
والصيحة: الصوت الشديد الخارج من حلق الإِنسان لزجر، أو استغاثة.
وأطلقت الصيحة في مواضع في القرآن على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمود: {فأخذتهم الصيحة} [الحجر: 73].
فالصيحة هنا تحتمل المجاز، أي ما ينتظرون إلا صعقة أو نفخة عظيمة.
والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية، فيكون أسلوب الكلام خارجًا على الأسلوب الحكيم إعراضًا عن جوابهم لأنهم لم يقصدوا حَقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه.
ومعنى {تأخُذُهُم} تُهلكهم فجأة، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المُغِيرين على الحيّ لأخذ أنعامه وسَبْي نِسائه، فأطلق على ذلك الحلوللِ فعل {تأخُذُهُم} كقوله تعالى: {فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} [الحاقة: 10] أي تحلّ بهم وهم يختصمون.
وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقة عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها.
ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين، أي ما ينتظرون إلا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل، فيكون إنذارًا بعذاب الدنيا.
ولعلها صيحة الصارخ الذي جاءهم بخبر تعَرّض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر.
و{يَخصّمُونَ} من الخصومة والخصام وهو الجدال، وتقدم في قوله: {ولا تكن للخائنين خصيمًا} في سورة النساء (105)، وقوله: {هذان خصمان} في سورة الحج (19).
وأصله: يختصمون فوقع إبدالُ التاء ضادًا لقرب مخرجيهما طلبًا للتخفيف بالإِدغام.
واختلَف القراء في كيفية النطق بها، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك: فقرأ ورش عن نافع وابنُ كثير وأبو عمرو في رواية عنه {يَخصّمُونَ} بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صادًا والمسَكَّنةُ لأجل الإِدغام، ألقيت حركتُها على الخاء التي كانت ساكنة.
وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكونًا مختلَسًا بالفتح لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشدّدة.
وقرأه عاصم والكسائي وابنُ ذكوان عن ابن عامر ويعقوبُ وخلف {يَخصّمُونَ} بكسر الخاء وكسر الصاد مشدّدة.
وقرأه حمزة {يخْصِمون} بسكون الخاء وكسر الصاد مخففة مضارع خَصم قيل بمعنى جادل.
وقرأ أبو جعفر {يخْصِّمون} بإسكان الخاء وبكسر الصاد مشددة على الجمع بين الساكنين.
والاختصام: اختصامهم في الخروج إلى بدر أو في تعيين من يخرج لما حلّ بهم من مفاجآت لهم وهم يختصمون بين مصدق ومكذب للنذير.
وإسناد الأخذ إلى الصيحة على هذا التأويل مجاز عقلي لأن الصيحة وقت الأخذ وإنما تأخذهم سيوف المسلمين.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وهُمْ يَخصّمُونَ} لإِفادة تقوّي الحكم وهو أن الصيحة تأخذهم.
وفرع على {تأخُذُهُمْ} جملة {فَلا يَسْتَطِيعونَ توصِيَةً} أي لا يتمكنون من توصية على أهليهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحْتضَر، فإن كان المراد من الصيحة صيحة الواقعة كان قوله: {فَلا يَسْتَطِيعونَ توصِيَةً} كناية عن شدة السرعة بين الصيحة وهلاكهم، إذ لا يكون المراد مدلوله الصريح لأنهم لا يتركون غيرهم بعدهم إذ الهلاك يأتي على جميع الناس.
وإن كان المراد من الصيحة صيحة القتال كان المعنى: أنهم يفزعون إلى مواقع القتال يوم بدر، أو إلى ترقب وصول جيش الفتح يوم الفتح فلا يتمكنون من الحديث مع من يُوصُونه بأهليهم.
والتوصية: مصدر وَصَّى المضاعف وتنكيرها للتقليل، أي لا يستطيعون توصية ما.
وقوله: {وَلاَ إلى أهْلِهِم يَرْجِعُونَ} يجوز أن يكون عطفًا على {تَوْصِيَةً} أي لا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم كشأن الذي يفاجئه ذعْر فيبادر بافتقاد حال أهله من ذلك.
ويجوز أن يكون عطفًا على جملة لا يستطيعون فيكون مما شمله التفريع بالفاء، أي فلا يرجعون إلى أهلهم، أي هم هالكون على الاحتمالين، إلا أنه على احتمال أن يراد صيحة الحرب يخصص ضمير {يَرْجِعُونَ} بكبراء قريش الذين هلكوا يوم بدر لأنهم هم المتولُّون كِبْر التكذيب والعناد، أو الذين أكملوا بالهلاك يوم الفتح مثل عبد الله بن خطل الذي قتل يوم الفتح. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)}.
هذه صفاتُ مَنْ سَيَّبَهم في أودية الخذلان، وَوَسَمهم بِسِمَةِ الحرمان، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوكِ القصد، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها على دوام انقباضهم، وإذا أُمِرُوا بالإنفاقِ والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام، وإن يَشَأْ نَظَرَ إليهم بالإنعام.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)}.
يستعجلون هجومَ الساعة، ويستبطئون قيامَ القيامة- لا عن تصديقٍ يُريحهم من شَكِّهم، أو عن خوفٍ يمنعهم عن غَيِّهم، ولكن تكذيبًا لدعوة الرسل، وإنكارًا لِصِحة النبوة، واستبعادًا للنشر والحشر.
ويومَ القيامةِ هم في العذاب مُحْضَرُون، ولا يُكْشَفُ عنهم، ولا يُنْصَرُون. اهـ.